البحر
البحر
علاقتي بالبحر معقدة مثل علاقتي بكل شيء حولي. لكن للبحر امتياز على غيره. فأنا أقيم دائمًا على بعد ساعتين منه. وأحن له دائمًا فأنا لست بالقريب القريب ولا بالبعيد البعيد.
في صغري لم أعرف البحر الا في صورتين، التلفاز، متمثلًا في أغنية «أمام البحر»، وبقعة زرقاء كبيرة أراها من الطائرة. أحفظ عن ظهر قلب الأغنية وكنت أغبط الصبي كلما بلله الموج وأحسّ البرد وارتجفَا، كنت أريد أن أرتجف من برد موج البحر أيضًا.
في أول لقاء حقيقي بيننا كاد أن يقتلني، أو كدت أن أقتل نفسي. فكطفل لا يعرف الخطر وبدون أي مراقبة وقفت على الشاطئ منتظرًا أن يبللني الموج وأن أرتجف من البرد تحت الشمس الحارقة. أتت الموجه ولكن لم يأتي البرد معها بل أخذتني للبحر، لموجات أكبر، ولم أقاوم أبدًا بل سلمت نفسي لحلمي. تتحقق الأمنيات ويغرقني الموج وها انا اذوق طعم الملح بكل حب.
حتى امتدت يدٌ تمسكني من خلفي تجرني للأعلى بعيدًا عن احلامي، امنياتي، ورغباتي. حيث اللّا أمواج ولا برد ولا ملح، مجرد شمس حارقة. عوقبت تلك الطلعة بأن نصيبي من البحر النظر كما كنت أفعل من الطائرة.
تعلمت أن أرسم في المدرسة بيت ونخلة وسيارة. لكن لم أكن أستأنس برسمها وكنت أملّ من الحصتين المتتالية التي نرسم فيها السيارات والبيوت وكأنها الشيء الوحيد الذي وُجد في الكون.
حتى تعلمت كيف أرسم الشاطئ وقارب صيد ولؤلؤ ثمين في أعماق الكراسة. كنت أضيف النوارس أحيانا في أعلى الرسمة وأحيان أخرى أرسم الأسماك تحوم حول الصدف ولا تعلم مكنونها. وكنت أسعد بتلك الرسمة وكأنها أعظم ما رسمه البشر بل هي أعظم ما رسمت أنا. للآن أرسم نفس الرسمة ونفس النوارس، أرسمها كلما طرى في بالي أن أرسم.
قبل أن أبدأ رحلة الوعي ومحاولة فهم سر الحياة كان البحر مرتبط عندي بالمتعة اللامتناهية باللعب بالماء والرمل وبناء القلاع وهدمها، بحفر قنوات مائية وصنع بحر صغير خاص بي ومن ذا يكره أن يذهب للبحر فالبحر لا عيوب له.
كبرت ولم أعد أنظر للبحر راغبًا في البرد، بل أتمنى لو يحضر لي دفئ من أعماقه لا أجده على اليابسة. «اليابسة» يا لقبح المفردة التي نعيش عليها.
أنظر إلى البحر وأسمع تراطم أمواجه فأصواتها محفوره في ذاكرتي، أشعر بالانتماء لها وكأن البحر يناديني، يستنجد بي، يود أن يقول لي شيئًا لم يستطع قوله من عشرين سنة.
وفي كل مره ترتطم أمواج البحر بي يزيد ايماني بأني أنتمي لذلك العالم وكأن هنالك شيء ضائع لي لا أعلم ما هو. قد تكون نفسي التي أبحث عنها أو إجابات لأسئلة أضعت الكثير من وقتي وأنا أفكر فيها على هذه اليابسة.
مع كل هذا الحب الذي أكتب وشعور الانتماء المتفاقم، في أعامق نفسي أنا أخاف البحر، الأمواج العاتية، ليل البحر الذي أتأمله كلما شعرت بضيق اليابسة وإزدحام العقل. وكأن البحر في أحيان كثيرة يمثل الضياع لا الإجابة وكأني أحن للضياع وأخاف منه في آن واحد. هذه علاقتي مع البحر معقدة عميقة قد أغرق في محاولة فهمها.
لطالما تمنيت منزلًا على الشاطئ ولا زلت أحمل هذه الأمنية معي ولا أعتقد أني سأفارقها. فأنا لازلت أريد أن يبللني الموج وأن أحس البرد وأرتجف. من غير شر.
تعليقات
إرسال تعليق