الموت
الموت
الموت قريب من الجميع فهو على بعد شهقة واحدة، رمشه واحدة، ثانية واحدة. أقرب من أن يُرى بالعين المجردة. لا تراه الّا عند حدوثه ولن تتوقع حدوثه أبدًا. إياك ومحاولة التجهز له، فسيقتلك الموت قبل ان تواجهه.
ولدت بعد موت رفيق والدي المفضل، وأفضل أخوة أمي الذي توفى قبل أن آتي على الدنيا بشهرين او أكثر. في ثالث أيام العيد حيث لم تكن السعادة حاضرة بسبب حالة الوفاة. وطأت على الدنيا في بيئة مليئة برائحة الموت ولم أكن أعلم عنه شيئا. فأنا لم ألتقه بعد.
أول لقاء بيني وبين الموت مازلت أتذكره وكأنه حدث بالأمس، أعود بالزمن سنينًا في لحظة واحده لأتذكره، أتذكر استيقاظي في صباح أحد أيام الاجازة وقد وجدت نساءً لا أعرفهم في بيت جدي، نساءً حزينات مكتسيات السواد يبكن. لم أكن أعلم ان البكاء ممكن للكبار حينها، وشعرت بأن منزلنا لم يكن منزلنا فهرعت لأمي فهي الوجه الوحيد الذي أميزه وسط كل ذلك السواد.
أمي تبكي؟ وتحاول أن تهدي نفسها لتخبرني بأن جدي مات!!! لم أكن أعرف ما هو الموت فسألت بكل سذاجة "فين بابا؟" لم يكن لدي أي تصور عن الموت فظننته يأخذ أباء الناس. طمنتي وقالت إن أبي بخير وأنه ذاهب ليصلي على جدي الذي بدوره ذهب لله.
عدت إلى فراشي لأجد عماتي نائمات مستغرقات في نوم عميق، لا يعلمون بذهاب جدي مع الموت. لم أتكلم بقيت مستلقيًا على فراشي أحدّق في السقف أسمع أصوات نحيب النساء. حتى استيقظت أحد عماتي وسمعت النساء يبكن في الصالة. أشارت لي بأن أذهب للمطبخ وأحضر لها شيئا لتأكله. كيف نأكل وجدّي ذهب مع الموت؟ لا أعلم كيف استطاعت أن تبتلع تلك اللقم، لا أعلم كيف لم تبكي، لا أعلم كيف لم تجن.
كنت أبكي كلما رأيت أمي تبكي ولم أكن أعلم لماذا أفعل ذلك غير انها الطريقة الوحيدة لإيقاف دموع امي، ظننت أن هذا هو الحل لعلاج مشكلة الموت عند الكبار وهو أن تبكي معهم.
قررت أمي أن بيئة العزاء لا تصلح لوجودي فقررت إرسالي لبيت أخوالي بعد مناقشات مع أبي الذي لم يكره الفكرة. كنت أظن أنهم أرسلوني لكي يبكي الجميع على هواه. لم يكن بيت أخوالي حزينًا تعلوه سحابه سوداء كبيت جدي، كانت الأجواء صافية ومشبّعة بالألوان، وكأنهم لم يعرفوا الموت قبل أن أولد وكأنهم نسو أنه موجود معنا. لعبت مع أبناء اخوالي وكلما سألني أحد عن جدي أخبرهم أنه عند الله.
لم أكن أفهم الموت حينها، ولم أفهمه للآن، ولن أفهمه ما حييت. منذ تلك السنين وأنا أتعجب في كل مرة يطرأ فيها الموت. كيف لشخص يكون موجودًا. ثم لا يكون!
كبرت دون مواجهة حقيقة للموت، وفي نهاية أحد ليالي مناوبات الطوارئ، سمعت ولأول مرة "CODE BLUE" في اسياب المستشفى، صوت ظننت أنه موجود في الأفلام فقط. هرعت وتجهزت ذهنيًا وجسديًا، أردت محاربة الموت لمرة واحدة في حياتي أردت أن أنتصر، من أجل البشرية.
كنت أحدق في عيني الموت وأنا أنعش المريض، لم تكن الدقائق تتحرك، ولم يكن لجسدي سوى حركة واحدة، تصلبت سواعدي، غلبني التعب في أول مواجهة حقيقية مع الموت ولكن لا أستطيع التوقف. أشعر بضلعٍ كُسر تحدي يدي، أسمع صوت من خلفي يقول "كمل السايكل يادكتور" ومن ثم يقول "كلير؟" وها نحن نبتعد عن السرير لآخر محاولة إنعاش.
نفس الصوت الآمر بالتكملة، قال "الله يرحمه" وأعلن وقت الوفاة. أردتهم أن يحاولوا معي مرة خامسة أو سادسة قد أضعت عدد المحاولات. لم أستطع الخروج من الغرفة وأنا مهزوم، اما أولئك الذين تجرعوا الهزائم في تلك الغرفة خرجوا للتعزية. إحساس خذلان من هم خلف الباب كان يأكلني. خذلت نفسي، غلبني الموت. لم أستطع أن أنقذ المسكين. بعد تعزية الأهل والدعاء لميتهم، ابتعدت قدر الإمكان لأن عيناي لا ترى سوى الدموع. دموع ضعف الانسان ووهنه.
أجلس في زاوية خارجًا أحايل الدمعة بأن لا ذنب لي، وأن هذا هو يومه، وأني فعلت ما بيدي أن تفعل. وتغلبني دموعي واجثوا على الأرض أبكي خالي وجدي وعمي وكل من أخذهم الموت من أحبابهم. بكيت وكأني لن أحتاج دموعي أبدًا بكيت بحرقة الخسارة والقهر والضعف، بكاء من لا حيلة له. أغسل وجهي الموصوم بالموت، عارفًا متيقنًا بضعفي التام كإنسان، محاولا عيش كل يوم بيومه.
تعليقات
إرسال تعليق