النظام
ميزة أن تكون أول
الواصلين من إخوتك لهذه الحياة هي إعطاء والديك رفاهية تعلّم التربية عليك، فلا
رقيب ولا حسيب، وإذا كنت ولدت في مثل وقتي فلا خيار لديهم الا التعلم بالمحاولة والخطأ حيث أن الانترنت
لم يكن في كل زاوية.
فكأول طفل لشاب
وشابة لم يبلغا عمري الآن، لابد أنّي كنت مصيبة أو كارثة حلت في منزلهم، فلا توجد وسيلة
تواصل بيننا فأنا لا أعرف الا الصياح ولا عقل يعمل لأفهم ما يريدان مني ولا خبرات
حياتية سابقة من كلا الجهتين. ولكن على العكس كانا يطيران من الفرحة كلما فعلت
حركة جديدة. وكانا يبدّيان رغباتي على رغباتهم.
بدأت بالمشيء والقاء
كلمات غير مفهومة دالة على رغبات شخصية، فها أنا أصبح كارثة متحركة مزعجة، وأصبحت
حركاتي الغير متوقعة في أوقات غير مناسبة تجعلهم يشتطون غضبًا بدل الطيران فرحًا.
وكعادة الانسان عندما يواجه معضلة لأول مره فهو يلجأ لوسائل الدفاع المتاحة له، أو
إلى الأسلوب الذي عاش حياته عليه حتى هذا الوقت.
وطبيعة والدي العسكرية التي لا تعرف الا تنفيذ
الامر المطلوب من الجندي الصغير، لم تكن تفلح معي ابدًا فلا قيود لدي ولا نظام
يحكمني. فقرر والدي أن يصنع مني أفضل جندي في كون. وكأي جندي في بداية تدريبة عليه
أن يعرف كيف ينصاع للأوامر ويستمع للتعليمات بشكل جيّد ويعرف العقوبات التي ستحصل
إن لم يتم تنفيذ تلك المهمات الصغيرة. بدأ والدي بتدريبي افعل كذا ولا تفعل كذا وإياك والكذب فنحن نعلم كل
شيء وكأني في عالم من صنع جورج أورويل وما أبي الا تجسيد للأخ الأكبر في نظري.
وصلت السن المناسب لأنضم للروضة وأنا لا أعرف الا
النظام العسكري وتنفيذ الأوامر، فقد كنت الابن المثالي الذي تتمناه كل العوائل،
ولكن بصيص الحرية قادم فها أنا سأبتعد عن بيتنا ساعات الصباح، دون رقيب ولا حسيب.
وكأول تجربة في مدينة جديدة، جاءتني تعليمات المهمة
العظمى «الذهاب الى الروضة» وكيف سيكون جدول حياتي بناء على ذلك. الاستيقاظ قبل
طلوع الشمس، الإفطار، ارتداء الملابس، انتظار الباص عند الباب، الوصول للروضة
"يجب عليك أن تكون محترما هناك وإلا سيتم احالتك للتقاعد" العودة من
الروضة، الغداء، التجهز لحصة الكاراتيه وحصة السباحة، العودة للمنزل والتجهيز
لحلقة تحفيظ القرآن، العودة للمنزل بعد صلاة العشاء، تناول العشاء والخلود الى
النوم. وكان هذا النظام يتكرر في كل أيام الأسبوع.
«وكان والدي متفرغا لجدولي أعلاه فهو من يذهب معي
بعد دوامه بدلا من أخذ قيلولة الظهر ويراني أحاول ألا أغرق، وبعد العصر وأنا
أتقاتل مع الأطفال في سني وهو يرى مواري جندي ممتاز ولسان حاله يقول لن يكون وقت
انتظاري مضيعة ابدا. تنتهي الحصة وها انا جاهز للذهاب للمنزل، متعب من كثر ما
فعلت، ولكن مازال هناك آخر فعاليات اليوم تسميع القرآن، كنت أحفظ في
السيارة في الطريق من منزلنا الى المسجد فقد اختار والدي أفضل حلقة في مدينتنا حتى
ولو كان في ذلك مشقة وعناء الذهاب.
كنت أنظر اليه وانا أنتظر دوري بعد الأطفال لأسمّع
ما حفظت قبل قليل. يقرأ القرآن في زاوية المسجد وكأنه لم يداوم صباحا ولم يكن معي
من بعد الظهر حتى الآن. لا أعلم كيف كان يتحمل كل ذلك الانتظار، دون فعل شيء سوا
المراقبة.
أعود له وفي يدي كيس بطاطس صغير دلالة على براعة
حفظي وأنا أقول له خلصت بابتسامة الفائز بمعركة اليوم، والمستعد لمعركة غدًا وكان
يقابلني بنفس الابتسامة. لا أعتقد أن والدي كان يراني جنديّه الصغير بل كان يراني
كقطعه منه. أتمنى أن أستطيع أن أرد له ولو القليل في حياتي هذه.»
بعد عدة
أيام استوعب عقلي أن والدي لا يستطيع أن يراني في الروضة فبدأت أوسع تلك الحدود والخروج
عن أوامري في ساعات الصباح القليلة، فها انا العب مع الفتيات رغم التحذيرات، وها
انا اجلس في المكتبة اتصفح الصور «فأنا لا اعرف كيف أقرأ» بدلا من الخروج في حصة
النشاط. انتهت السنة وعدت من مهمتي رغم كل تلك المخالفات والتبعات التي لحقتها
فلقد حللتها كجندي ممتاز ولم أحال للتقاعد بعد.
ومن يذق تلك الحرية يستنكر
حياة العبودية العسكرية، فها أنا أعلّم اخوتي كيف يطيعون الأوامر من ناحية وكيف
يخالفونها من ناحية أخرى دون أن تكتشفهم حكومة القائد، فقد نشأ بعدي جيل فاسد من
العسكر بشخصيات مزدوجة وكأننا عملاء لدولة عميقة في المنزل.
بعد سنوات كثيرة من الحكم
العسكري تمكن هؤلاء العسكر الفاسدين بأن يتحرروا. وأصبح بيتنا ديموقراطيا بعض
الشيء فما زال الوالد يمتلك حق الفيتو على الكثير من القرارات ولكن لكل منّا
الحرية في ابداء رأيه، والمحاولة في مفاوضته في العدول عن استخدام الفيتو وننجح في
أحيان كثيرة.
بصفتي أقدم أخوتي في
المنزل وأكثرهم تعرضا للنظام العسكري المنزلي فأنا ذراع والدي اليمين، رجل المهمات
الصعبة ان صح القول، ولي من السلطة ما يكفيني لأتميز عن بقية اخوتي. وبصفتي قائد
الدولة العميقة ومؤسسها في المنزل فأنا أعرف كل صغيرة وكبيرة تدار في الطرفين
فتارة ألبس قبعة المسؤول وتارة قبعة الثائر. حتى ضاعت القبعات ولم أستطع أن اعرف
من أنا، خليط من ذاك وذا والخليط لا يعمل عمل الصافي، وبوصلة اخلاق رجل المهمات
الصعبة لا تتماشى مع عقلية الثائر، فها انا اضيع بين ذواتي التي وضعتها بنفسي.
وكأي ضابط في الجيش عندما يعوف عليه الزمن يبدأ الزمن بالتخلي عنه، وتهترئ مفاصله،
ويشرد ذهنه، وتضعف سلطته على من هم تحت إمرته.
فكان لزام علىّ أن أتنحى
قليلا لأحل مشاكلي الشخصية، لأجد القبعات واعيد ترتيبها، لكي أعرف من انا وماذا
اريد. يتخلل كل هذا معضلات حياتية طبيعية ولكنها أتاهتني.
تجدني في متاهة الحياة لا
أعلم من أي جهة دخلتها ولا خارطة معي لتدلني على طريق النجاة، رأيت الضياع لأول
مره، نظرت في عينيه "وكعادة الانسان عندما يواجه معضلة لأول مره فهو
يلجأ لوسائل الدفاع المتاحة له، أو إلى الأسلوب الذي عاش حياته عليه حتى هذا
الوقت."
فبدأت بوضع خطة
دقيقة لا تشوبها شائبة، الا ان عزيمتي المطفأة اهلكتها وكادت ان تهلكني معها. ذهبت
الى والدي أسأله عن الخطط المفروضة؟ وماهي أوامر الجندي المتقاعد في معركته ضد
الضياع؟ فكان جوابه أن الجندي يعرف ما يلزم فعله وأن كل ساعات انتظاره تلك لم يكن
ليحتملها لو لم تكن ستجهزني لمهمة أكبر، لحرب ضد الحياة بأكملها.
وضعت كل شيء على
ورقة من وحي خيالي وبدأت أحلل المواقف، الطرق والاحداث، كان كل شيء يمر بعملية
تحليل وتدقيق شديدة القوة.
«أحتاج لنظام» هذا ما كان
عقلي يزنّ علي به بين كل فكرة وأخرى. فأعطيته ما يريد، نظام محسوب بشدة لدرجة أنّي
لا أستطيع ان اتنفس الا بشرط وجود مهمة التنفس في قائمة المهام. وبطبيعة الحال فشل
نظامي الغير عقلاني. ولم أزد الا ضياعًا.
محاولة رقم "لا
أعلم" فأنا توقفت عن العد عند ثلاثة وثلاثون. الاستيقاظ قبل طلوع الشمس،
الفطور، الذهاب للعمل، العودة، شرب القهوة، مواصلة العمل، شرب قهوة أخرى، النادي،
قراءة ما قبل النوم ان أمكن، النوم. وتكرار ذلك مرارا وتكرارا.
هاهو الجندي يرى أنوار
الحياة من جديد وهذه البيئة التي اعتاد عليها، بيئة منظمة كل ما فيها واضح ومحسوب.
وهاهي قبعاته وجدها في طريق العودة. والضياع؟ كان يصغر شيئا فشيئا. عاد المتقاعد
الهرم بعد معركة الضياع، ومازال امامه حرب الحياة يرغب بالفوز فيها.
تعليقات
إرسال تعليق